الحرية.
كم تُرتكب باسمها الزلات.... وكم تُفقد من مقدسات تحت شعار " البطولات " وكسر “التابوهات"!!
و ها هو الويل و الثبور و عظائم الامور يقع على من يتجرأ على الانتقاد و لو بمحبة أو بحس المسؤوليّة الأخويّة... ففي عالم العولمة، اعتدنا رؤية "الأخطاء" و تخدرت فينا مشاعر الغيرة على كل خير : الخير العام أو الخاص.
و في زمن تحوّل فيه إنساننا الى "قرد ذكي" يقتحم الفضاء الخارجي، فرغ عالمنا الداخلي و سقطت من قاموس مجتمعاتنا كلمة " خطيئة" تحت شعار "قدسية الحرية".... ليقابلها مشهد متطرف يدعي التطهير وهو أولى بالحاجة إليها... أما المؤمن الذي ينوح على مأساة عالمنا فيتم رشقه ب " أصمت ولا تدين"!!
صحيح. لقد دعا الرب الى عدم الإدانة " لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تُدانون، وبالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم" (مت 7: 1-2). ولكن....
عدم الإدانة لا يعني السلوك بلا تمييز، والرب نفسه على لسان أشعيا يحذر من الويل الذي يقع على "القائلين للشرّ خيرًا وللخير شرًا، الجاعلين الظلام نورًا والنور ظلامًا، الجاعلين المرّ حلوًا والحلو مرًا" (إش 5: 20). فمن في داخله روح الرب القدوس يحمل روح التمييز، ويرى سقطة أخيه ولا يتجاهلها، ورغم مرارتها هو مدعو للحزم بمحبة. والعهد الجديد نفسه لا يصدر حظراً واسعاً على فكرة (الإدانة): نسمعه في الرسالة الأولى الى كورنتس يتحدث عن الإنسان " الروحي الذي يحكم في كل شيء، وهو لا يُحكم فيه من أحد" (1 كو2: 15).
فهل هنا تناقض مع متى ؟؟؟ بالطبع لا!!
آخذين بعين الاعتبار أن اليونانية هي لغة العهد الجديد، يتحدث علماء الكتاب المقدس عن الكلمة اليونانية المستخدمة في آية متى حول عدم الدينونة وهي (krino) بمعنى حكم أو لعن أما في كورنتس يستخدم المؤلف (anakrino) بمعنى تمييز أو دراسة.
وهكذا بينما يحثنا الرب على عدم إدانة الآخرين بمعنى عدم "لعنهم" هو ما يزال يشجعنا على "الحكم على كل شيء،" باستخدام ما وهبنا للتحقيق في الأمور و تمييز الحقيقة.
على صورة الله ومثاله شُكّل الإنسان. ولأننا نعيش في عالم فيه الحق والباطل، الخير والشر، والأخلاق والقيم، لا يمكننا إلا أن نشكّل الأحكام حول الأمور الخاصة بنا وأيضاً أفعال الآخرين. هذا جزء من عمل الضمير والفكر الفاعل في كل منا... وهذا ما نحن مدعوون أن نفعّله في حياتنا على ضوء من هو الطريق والحق والحياة: التمييز دون لعن الآخر.... فالمحبة تتوّج كل الفضائل وباسمها كل منّا مدعو للنصح الأخوي حيث الحقيقة تقتضيه!!
في الأسبوع الماضي هز العالم خبر مقتل صحفيين من جريدة "شارلي إيبدو" الفرنسية الساخرة.
وفي الوقت الذي يجب أن يدان هذا الإرهاب الذي طال حياتهم، فعل التمييز يحتم قراءة متأنية:
المجموعتان ابتعدتا عن الحكمة الإنجيلية أعلاه: خفقٌ في التمييز وإصرار على دينونة الآخر...
فمستوى "السخرية" الذي مارسه الصحافيّون غيّب في العديد من الأحيان أي حس باحترام الآخر، فتعرضوا لكثير من القيم ولم تسلم جميع الديانات ولا الأنبياء ولا حتى الذات الإلهية ولا الثالوث من رسوم أقل ما يقال فيها "مسيئة". رسومهم تلك لم تكن تتمتع بالحكمة حتى البشرية منها... حتى أتى اليوم الذي فيه استيقظ غضب "قايين " ما واصطدم هؤلاء بمن يخلو من المحبة ويصّر على "اللعنة". فوقعت الفاجعة!!
يقف كل مؤمن أمام هذا المشهد الذي يدمي القلب، حزيناً : قتل معنوي يقابله حذف جسدي... و منهم من حذف الله وسخر منه و منهم من حذف الله و قتل باسمه !! وعند تغيّب الله، تغيب الحياة ولا يبقى سوى حضارة الموت!!
ونصرة لمنطق التمييز، وكي لا نغرق في " عولمة اللامبالاة التي جعلتنا كلّنا "نكرة"، مسؤولين من دون اسماء ولا وجوه"، لا بد من القول:
حذار من حرية الهالكين:
هي تعتزل الإيمان وتدعي بلوغ الكمال بمجد الإنسان الخارجي، تقتل الإنسان الداخلي لتستفيق على موت أبدي....
Follow